ظنّ الكثيرون أن العملات الرقمية المشفرة تعرّضت لضربة قاصمة مع إعلان الصين في أواخر شهر أيلول/سبتمبر الفائت فرض قيود على تداولها، وفرض حظر على منصات تداول شهيرة. كالعادة، سارع المشككون في مستقبل "بيتكوين" وأخواتها إلى الاحتفاء بالتراجع المنتظر في لحظة أشد من التراجع الفائت الذي تسبّب به إيلون ماسك وشركته "تسلا"، بعد أن استفاق – فجأة - على الأضرار البيئية لتعدين "بيتكوين"!
ولكن كلّ حملات التشكيك وتوقّعات الهبوط القياسي خابت هذه المرة أمام صمود قيمة العملات الرقمية المشفرة، بل صعودها، حتى بات سقف دعم "بيتكوين" يتأرجح بين 42 ألف دولار و45 ألف دولار، بعد أن كان يهبط سابقاً إلى ما دون الـ30 ألف دولار.
بالنسبة إلى المحلّلين ممن صدقت توقعاتهم في السابق، فإنَّ "بيتكوين" تتّجه نحو المئة ألف دولار في المدى المنظور. وقد كانت المرحلة الممتدة بين أيلول/سبتمبر من العام الجاري وآخر العام 2021 محور التوقعات الإيجابية الصادرة في الأشهر السابقة.
بالفعل، نشهد حالياً هذا الصعود للعملات الأساسية، مدفوعاً بزخم لم تستطع إجراءات الصين القاسية وقفه، فلماذا لم تؤثر خطوة الصين العملاقة والفاعلة في تعدين العملات الرقمية في مسار الصعود؟ في الواقع، باتت العملات الرقمية المشفرة تستمدّ قوتها من اتساع انتشارها في الدرجة الأولى، في مشهد يعكس تشابهها مع القوة التي اكتسبتها شبكات التواصل الاجتماعي في صعودها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
وفي جانب آخر، يساهم التضخم الأميركي المتزايد في توفر سيولة نقدية تغطي ارتفاع قيمة العملات الرقمية، بما فيها تلك المصنفة "Meme coins"، أي العملات التي لا تعتمد على أي فكرة أو مشروع حقيقي، ولا تمتلك أي قيمة فعلية، بل تستمد قوتها ببساطة من كونها مجرد "مزحة" اتفق المتداولون على إعطائها قيمة عبر عمليات البيع والشراء. ومن أبرز هذه العملات "Dodge Coin" و"Shiba".
وبعد أن طبع الفيدرالي الأميركي كميات ضخمة من الدولارات لتغطية آثار جائحة "كوفيد 19"، شهد سوق العملات الرقمية المشفرة ارتفاعاً ملحوظاً في دخول متداولين جُدد إلى الأراضي الأميركية تحديداً، بعد أن قررّ عدد منهم استثمار أموال المساعدات الحكومية الشهرية في شراء العملات الرقمية المشفرة.
استمرّ الحال كذلك لأشهر عديدة مع تفضيل آلاف الأميركيين ترك أعمالهم والاعتماد على مساعدات الحكومة بدعوى "كوفيد 19"، وسط ضخّ إضافي للدولارات اللازمة لمساعدة أكثر من 330 مليون أميركي.
هذا الواقع ساهم في تشكيل موقف الكونغرس من قطاع العملات الرقمية المشفرة، إذ كان صوت المشكّكين يعلو على ما سواه في أروقة واشنطن، إلى أن بات هذا القطاع حاضراً بقوة في الاقتصاد العالمي بمئات مليارات الدولارات. ومع تصدر منصّات تداول أميركية للأسواق العالمية، كمنصة "كوين بايز" (Coinbase)، طغت أصوات رجالات الكونغرس الحذرين من سوق العملات المشفرة، والداعين إلى تنظيمها مع استبعاد تام لحظرها، كما فعلت الصين.
وفي هذا السياق، أعلن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول أنَّ الحكومة الفيدرالية بحاجة إلى تنظيم سوق العملات المشفّرة، لكن الحظر الشامل على بيتكوين (BTC) والأصول الرقمية الأخرى ليس أمراً محتملاً. كلام باول سبقته مساعٍ تشريعية دخلت حيّز التنفيذ لاحتساب ضرائب فيدرالية على أرباح الأميركيين من سوق العملات الرقمية المشفّرة، ما يعني عملياً أن الحكومة الأميركية قررت استيعاب المسألة برمّتها والاستفادة منها.
وفي وقت نجحت واشنطن في استثمار صعود العملات الرقمية المشفرة واستغلالها، يبدو أنَّ الصين وضعت عشرات ملايين المتداولين على أراضيها في مأزق بعد قرار الحظر، ما أدى عملياً إلى عمليات بيع واسعة النطاق استوعبها متداولون من جميع أنحاء العالم، بما فيها الولايات المتحدة، فقاموا بشراء ما باعه الصينيون على سعر منخفض، ما أدى إلى ارتفاع أسعار هذه العملات القياسي نتيجة ارتفاع الطلب.
وفي خلاصة المشهد، استعادت العملات الرقمية المشفّرة عافيتها سريعاً بعد الحظر الصيني، بل يمكن القول إنَّ القرار الصيني السلبي أعطى دفعاً كبيراً لصعود العملات بعد حالة التذبذب في الأشهر الأخيرة، كما أنَّ القيود الصينية المشددة للمرة السابعة على التوالي منذ العام 2013 وفّرت زخماً وحماساً إضافياً على مستوى العالم لدى الراغبين في الاستثمار بالعملات الرقمية المشفرة.