خسر المتداولون في سوق العملات الرقمية المشفرة أرباح خمسة أعوام بعد تقلص القيمة السوقية للقطاع بمقدار تريليوني دولار منذ مطلع العام 2022.
سرعان ما أثارت أنباء تراجع قيمة إجمالي سوق العملات المشفرة شهية المشككين، كما رجال الأعمال التقليديون والجهات المالية الناظمة، في الولايات المتحدة وأوروبا، ليعزّزوا انتقاداتهم التي لم تتوقف يوماً، وتحذيراتهم التي ترفض الاستثمار في الأصول الرقمية، لأنها "خطرة"، لكنها تشجّع على الاستثمار في أسواق المال التقليدية، التي تخضع أيضاً للجشع والسياسات الحكومية والصراعات الدولية!
لست هنا في معرض الدفاع عن الاستثمار في العملات الرقمية المشفرة، وخصوصاً أني، منذ الانخراط في هذا العالم، أنصح كل من يطلب مشورتي، سواء كان من أصحاب الملايين أو "الملاليم"، بأن يستثمر بمبلغ قادر على تحمل خسارته بالكامل، في أسوأ السيناريوهات، وألا يُهلك نفسه في أتون التداول اليومي. لكن "فزعة" وارن بافيت وبيل غايتس، ومن أمامهما جيوش من أباطرة المال، بمناسبة الهبوط الحاد لقيمة العملات الرقمية المشفرة، تستدعي التدقيق والتفسير والتصويب.
لطالما عانت العملات الرقمية المشفرة التذبذبَ في أسعارها. قد يناقش البعض في أن الخسائر لم تكُنْ يوماً بحجم ما يحدث حالياً بعد أن فقدت السوق 70 في المئة من قيمتها، لكنّ مفهوم العملات الرقمية المشفرة وعوامل نجاحها تدحض جميع التنبؤات "العلمية"، إن صحّ أن نُطلق على كل تحليل صفة العلم.
في الواقع، تشبه العملات الرقمية المشفرة كائن "الهيدرا" الأسطوري، الذي كلما قُطع رأس له نبتت رؤوس أخرى. فهذه العملات تستند إلى تكنولوجيا "بلوكتشين"، التي تسود رويداً رويداً مجالات الأعمال كافةً، من التأمين إلى المصارف، فالميادين الأمنية والعسكرية والقطاعات التربوية، وكل ما يحمل سمة تنظيمية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي مُنيت بها العملات الرقمية المشفرة، فإنّ سوق الرموز غير القابلة للاستبدالـ NFT تستمر في النمو بصورة مطردة، مدفوعة بإقبال شرائح شعبية عليها، وخصوصاً في مجالات الرياضة والفن والإعلام.
لكنْ، ما الذي يفسّر أسباب الهبوط الحاد في سوق العملات الرقمية المشفرة، وما مصير هذه العملات؟ وهل يمكن أن تصل إلى قيمة صفرية؟
تؤدي العوامل التالية دوراً مباشِراً في تراجع قيمة العملات الرقمية المشفرة:
- التضخم في الاقتصاد الأميركي واتخاذ السلطات الفدرالية مجموعة إجراءات للتقليل من فائض الدولارات التي تمت طباعتها لدعم الأميركيين في إبّان وباء كوفيد 19. هذا التضخم وهذه الإجراءات دفعت المستثمرين إلى الحد من مغامرات الاستثمار في الأصول الخطرة، والنحو في اتجاه أصول أقلّ خطراً. رافقت هذا الواقع حملة إعلامية شرسة ضد العملات الرقمية المشفرة، لأن الإحصاءات كشفت أن النسبة الأكبر من أموال المساعدات، التي حصل عليها الأميركيون كإعانة اقتصادية بعد الوباء، تم استثمارها في شراء عملات رقمية مشفرة. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن قرار الفدرالي الأميركي رفع أسعار الفائدة ساهم في موجة التضخم عالمياً في الاقتصادات المرتبطة بالدولار الأميركي، وأدى بالتالي إلى انخفاض الناتج المحلي لهذه الاقتصادات، وساهم بالتالي في تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، كما شهيتهم للاستثمار بصورة عامة. وهنا، يجب الالتفات إلى حدث استثنائي بدأت معه عملية هبوط قيمة العملات المشفرة، ويجب التوقف عنده لاحقاً ملياً، وتمثّل بحملة إعلامية شرسة تعرّضت لها عملة "تيرا" التي كانت حاولت ربط قيمتها وتثبيتها بقيمة الدولار الأميركي، الأمر الذي أدّى إلى انهيار هذه العملة الواعدة وبعدها عملة "لونا" الشريكة لها.
- الحرب في أوكرانيا: كتبتُ سابقاً أن واشنطن هي "الرابح الأكبر" من القيود التي فرضها عدد من دول العالم على تعاملات العملات الرقمية المشفّرة. انتقد البعض عنوان مقالتي يومها من خلفية سياسية بحتة، بسبب عدم إدراكه خطورة سلاح الثروة الرقمية في صراع الأمم. بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تبيّن للأميركيين والأوروبيين أن روسيا تجني عشرات مليارات الدولارات من تعدين العملات الرقمية المشفرة، بالاستفادة من الطقس البارد في مساحات واسعة منها، الأمر الذي يوفّر تكلفة أجهزة التبريد اللازمة لعمليات التعدين، كما عبر الاستفادة من وجود بنية تحتية قانونية تحمي هذه العمليات. وبات ضبط أسعار العملات الرقمية المشفرة هدفاً وأداة دوليَّين في محاولة تجفيف منابع التمويل الروسية للعملية العسكرية في أوكرانيا.
- مصلحة أسواق المال التقليدية: بلغ حجم الاستثمار في العملات الرقمية المشفرة أرقاما قياسية حتى نهاية عام 2021، وذلك على حساب الاستثمار في الأسواق التقليدية، من بورصة وأسهم وسندات. المتضررون من هذا الواقع هم أمثال بيل غايتس ووارن بافيت، ممن يربحون مليارات الدولارات ويخسرونها في الدقيقة جرّاء أيّ شائعة تطال واحدة من شركاتهم، فما بالكم بقطاع بأسره بات ينافسهم بفعل تقنيته التي تعطي الأفراد شعوراً بالتحكم بدلاً من السائد في أسواق المال التقليدية.
إلى الأسباب أعلاه، بدأت جملة أحداث إرهاصاتها في العام الفائت، كالاضطرابات الأمنية والسياسية في دولة كازاخستان، التي كانت تُعَدّ بمثابة جنة لشركات تعدين العملات الرقمية المشفرة بسبب انخفاض تكلفة استهلاك الكهرباء فيها.
العوامل المؤثّرة في الهبوط الحادّ لسوق العملات الرقمية المشفرة تقودنا مباشرة إلى السؤال الأهم: هل سنشهد اندثار هذه العملات وخسارتها بالكامل؟
تحمل الإجابة عن هذه الفرضية شقين:
في الشق النظري، مع خسارة تريليونَي دولار من قيمة العملات الرقمية المشفرة، أو 70% من إجمالي قيمتها، يمكن القول إنّ من الممكن أن نشهد خسائر إضافية ما دون سقف الخسائر التي حدثت حتى الساعة.
أمّا في الشقّ العملي، فسواء استمر مسلسل الخسائر أو عادت بيتكوين تحديداً إلى الارتفاع، فسيكون هناك تصحيح وتصويب للعقود الذكية التي ستقود مرحلةَ التطوير المقبلة من هذه العملات، ذلك بأنّ تقنية "بلوكتشين" نفسها لا تتأثر بقيمة المنتوجات المبنية عليها، بل إن حجم أعمال هذه التقنية آخذ في النمو وسط توقعات تُفيد بتجاوزه 39 مليار دولار خلال عامين. وبالتالي، فإن المؤمنين بنجاح التقنية سيلجأون إلى تطوير منتوجات جديدة، كما حدث في مجال الرموز المشفرة وغير القابلة للاستبدال، NFT، تعالج الثُّغَرَ في المنتوجات السابقة، وهو ما أفصح عنه رئيس هيئة بورصة التشفير الأميركية، بريان شرودر، عبر توقعه "مزيداً من ضحايا (خسائر العملات الرقمية المشفرة)"، لكنه عدّ هذا "الاضطراب صحياً للقطاع لأنه يزيل الفائض".
في المحصّلة، نحن أمام تبلور نوع جديد من التعاملات المالية المرتبطة بأيديولوجيا عابرة للحدود، ما دام هناك مستثمرون كبار يؤمنون بالعملات الرقمية المشفرة، ومنهم إيلون ماسك، وما دام في مقدور أي جماعة أن تعطي قيمة لعملة موجودة أو أخرى تقرر إنشاءها.
قبل 20 عاماً، كانت تحليلات كبرى الدوريات الاقتصادية في العالم تشكّك في قدرة شركة أمازون على الاستمرار والنجاح. نحن اليوم نشهد تجربة مماثلة، لكن على صعيد أوسع وأشد خطورة، كوننا ببساطة نواكب ولادة الجنين المالي في عالم Web 3.0